بيروت- الوطن- نورما أبوزيد
تقول الأسطورة: «في لبنان لا تتراجع أسعار العقارات أبداً».. تستقرّ الأسعار في الأزمات الكونية ولكنّها لا تنزلق أبداً، وتحلّق صعوداً ما إن تلوح الانفراجات، ولذلك يعدّ العقار الملاذ الآمن للمستثمرين اللبنانيين والأجانب.
ثماني سنوات مرّت على بداية الأزمة المالية العالمية، وخمس سنوات مرّت على بداية الأزمة السورية ولم تتراجع أسعار العقارات في لبنان، مناقضة بذلك أبسط القوانين الاقتصادية التي تقول «في الأزمات لابدّ من أن تنخفض الأسعار»، إلّا أنّ القاعدة المعمول بها في البلد «الأسطورة» هي أنّ «لبنان عملة نادرة، والعقار فيه عملة نادرة»، ولذلك الأسعار تستقرّ في أزمنة الكساد ولكن لا تنخفض.
فرغم تاريخها العنيف، تتربّع العاصمة اللبنانية بيروت دائماً على عرش الأمكنة المثالية للمستثمرين العقاريين، وشركات التصنيف العالمية التي تكون دراساتها بمثابة بوصلة تحدّد أي اتّجاه يفترض أن تسلكه حقائب المال، تضعها دائماً في المنطقة الآمنة، وقد صنّفتها دراسات عديدة صدرت مؤخراً عن شركات «كاندي أند كاندي» و«ويلث مانجمانت» و«سافليس» واحدة من بين 12 مدينة على مستوى العالم ستقدّم أفضل العائدات المالية للمستثمرين العقاريين خلال السنوات القليلة المقبلة.
فعلى الرغم من غياب عامل الاستقرار السياسي، وعلى الرغم من انسلاخ السوق العقاري اللبناني عن الواقعين الاجتماعي والاقتصادي للناس، لاتزال رافعات البناء تملأ سماء بيروت، كما لو أنّ العاصمة لاتزال في عصر «الفقاعة» العقارية التي سادت ما بين 2003 و2009، حيث ارتفعت أسعار العقارات من أراضٍ ومساكن ما بين 300 و500 %، وهذا الواقع إذا ما عطفناه على دراسات كبريات الشركات العالمية التي تُعنى بالشأن العقاري، يدفعنا إلى طرح أسئلة جوهرية أوّلها: لماذا يُعتقد أنّ القطاع العقاري في لبنان ملاذ آمن في منطقة خطرة؟ ولماذا يُقال إنّ أسعار العقار في لبنان لا تتراجع أبداً؟ وبأيّ ثمن تجري المحافظة على مرونة السوق العقاري التي تبقي بدورها الأسعار مرتفعة؟
هذه الأسئلة وغيرها حملتها الوطن إلى رئيس «التكتّل الاقتصادي اللبناني» الدكتور حسن تاج الدين، للحصول على أجوبة شافية حول اللغز الذي يحيط بالقطاع العقاري اللبناني.
لبنان الأرخص
تاج الدين الذي يتربّع على عرش المطوّرين العقاريين في لبنان، يعيد تربّع لبنان على عرش الأمكنة المثالية للمستثمرين العقاريين إلى كون سعر العقار فيه هو الأرخص مقارنةً مع سائر الدول الرابضة على شاطئ المتوسط، إضافة إلى صغر مساحته الجغرافية التي تجعل أصحاب العقارات أكثر تمسكاً بعقاراتهم إيماناً منهم بحتميّة تسلّق الأسعار سلّماً تصاعدياً في ظلّ محدودية العقار، وسعي مغتربيه الذين يتفوّقون عددياً على المقيمين فيه إلى تملّك مسكن على الأقلّ في وطنهم الأم لبنان.
يقول تاج الدين بثقة عالية: إنّ القطاع العقاري في لبنان أظهر صلابته إزاء الظروف السياسة والأمنية العسيرة محلياً وإقليمياً، وهو إذ لا ينفي وجود تناقض بين غياب الاستقرار الأمني والسياسي وغياب الثقة من جهة، وبين التمسّك بنظرية عدم تدنّي أسعار العقار في لبنان من جهة أخرى، ولكنّه يعتبر أنّ ما لا يصحّ في بلد آخر يصحّ في لبنان، لأنّ لبنان بحسب ما عبّر يتعايش منذ عهد الاستقلال بشكل طبيعي مع هشاشة متعدّدة الأوجه رافقته في السياسة والأمن نظراً إلى تركيبته الطائفية وإلى جغرافيته، وعليه يعتبر تاج الدين أنّ التناقض بين تيارين يتجاذبان البلد هو أمر متجسّد في داخل كلّ لبناني، ولذلك اللااستقرار هو أمر طبيعي وبديهي بالنسبة لنا.
قاطرة الاقتصاد
رغم التفاؤل الذي يبديه تاج الدين بحاضر ومستقبل العقار في لبنان، يوافق على أنّ نشاط القطاع العقاري ليس في أحسن أحواله، ولكن في مقابل النشاط المحدود الذي يحصره بالواجهة البحرية لبيروت وفي محيط الوسط التجاري حيث لم تعد المنطقة مكاناً لسكن الناس العاديين، ويشدّد على أنّ نشاطاً طبيعياً يقابله في ضواحي المدينة وعلى أطرافها، وللتأكيد على متانة وصلابة القطاع العقاري يقول: إنّه بالرغم من انعكاسات الأزمة السورية السلبية على لبنان في المجالات كافة، فإنّ سعر العقار حافظ على استقراره، ووحدها شركات التطوير العقاري التي تعتمد في عملية البناء على القروض المصرفية اضطرت إلى تحريك أسعار الشقق ذات المساحات الكبيرة نزولاً بسقف أعلى وصل إلى 20 % كي تتمكّن من المحافظة على استمراريتها في السوق في ظلّ تضاؤل الطلب على الشقق الكبيرة، ولكن هذه الحالة لم تنسحب على الشركات التي تتمتّع بمصداقية كبرى في السوق العقارية وعلى تلك المترسملة، بحيث حافظت هذه الأخيرة على استقرار أسعارها عند مستوى معيّن.
يجزم تاج الدين أنّ ما يُثار عن أنّ القطاع العقاري في لبنان على شفير الهاوية مجرّد إشاعة، ويؤكّد أنّ العقار لايزال وعاءً استثمارياً مربحاً، وكلّ ما في الأمر أنّ السنوات الأخيرة «غربلة» الدخلاء على القطاع، ويضيف: قد لا يكون الاستثمار منطقياً في بيئة مضطربة كالبيئة اللبنانية، ولكن البيئات المضطربة هي في أحيان كثيرة جذّابة للمستثمرين على قاعدة «HIGH RISK HIGH PROFIT»، وفي الوقت الذي يرى فيه جزء من الاقتصاديين اللبنانيين أنّ الفقاعة العقارية هي انتفاخ غير طبيعي ولولا تدخّلات مصرف لبنان لكان انهار القطاع، يرى تاج الدين في الفقاعة العقارية نمواً طبيعياً، ويشيد بسياسة الحاكم رياض سلامة الاقتصادية.
فبالنسبة لجزء من الاقتصاديين، مصرف لبنان لا يريد أن يصحّح الأسعار التي تخطّت الملاءات المالية للطبقتين الفقيرة والمتوسطة، ولذلك يحافظ عبر سياساته المالية على الأسعار المرتفعة للعقارات، في مؤامرة واضحة بينه وبين المصارف والمطوّرين العقاريين، وبالنسبة للبعض الآخر الذين يشكّل تاج الدين جزءاً منهم، سياسة مصرف لبنان تعزّز الثقة بالقطاع العقاري، ولذلك ما يراه البعض سياسة حكيمة لمصرف لبنان، يراه البعض الآخر سياسة لئيمة، ودليلهم في ذلك تلقّي قطاع العقار والبناء 56 % من الموارد التحفيزية في الوقت الذي يمثّل فيه هذا القطاع 20 % من الاقتصاد.
سياسة مصرف لبنان الداعمة للقطاع العقاري التي يرى فيها البعض مأخذاً على حاكمية المصرف، يصرّ تاج الدين على أنّها سياسة حامية للاستقرار الاقتصادي، ويعتبر أنّ انتقاد هذه السياسة ينمّ إمّا عن جهل المنتقدين، وإمّا عن انزعاجهم من سياسات الحاكم الناجحة، ويقول: إنّه من الطبيعي أن تكون الحزمة الاقتصادية المخصّصة لقطاع البناء أكبر من سائر الحزم المخصّصة للقطاعات الأخرى لأنّ هذا القطاع هو قاطرة للاقتصاد، وطالما قطاع البناء بخير طالما سائر القطاعات الاقتصادية بخير، ويستفيض بسرد لائحة طويلة من المستفيدين، تبدأ باليد العاملة ولا تنتهي بتجّار ومصنّعي الأثاث المنزلي.
سكن الناس العاديين
بعيداً عن المؤيّدين والمعارضين لسياسة مصرف لبنان تجاه القطاع العقاري التي تبقي أسعار العقارات مرتفعة، الأكيد هو أنّ أسعار العقارات في العاصمة بيروت تخطّت الملاءات المالية لمعظم اللبنانيين. فمتوسّط سعر الشقة في بيروت هو 900 ألف دولار، بينما متوسّط دخل الفرد هو 10 آلاف دولار، الأمر الذي يدفع ذوي الدخل المحدود إلى خارج المدينة، وفي هذا الإطار يقول الدكتور حسن تاج الدين: إنّ بيروت لم تعد مكاناً لسكن الناس العاديين، ويعيد ذلك إلى ندرة الأراضي التي جعلت الأسعار ترتفع، وإلى السياسة التي اتّبعها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي جذبت المستثمرين العرب إلى بيروت.
يعتبر تاج الدين أنّ شخص الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان عامل ثقة بالنسبة للمستثمرين الخليجيين الذي أثروا السوق العقارية في لبنان، ويرى أنّ السياسة التي اتّبعها الحريري كانت نقطة قوة لصالح لبنان، وعندما فقدت الثقة هربت رؤوس الأموال الخليجية، وحتّى المستثمر اللبناني انكمش بانسحاب المستثمر الخليجي، ولكن برأيه الانفراجات السياسية التي شهدها لبنان بانتخاب رئيس للجمهورية، سوف تحرّك الجمود العقاري الذي وضع حركة شراء الشقق الفارهة على سكة التراجع، وعليه يتفاءل بسنة جديدة ترتفع فيها أسهم القطاع العقاري، خصوصاً إذا ما اكتمل المشهد السياسي عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية.
يشرح تاج الدين أنّ حصّة الخليجيين الراهنة من السوق العقارية في لبنان ليست كبيرة، ويقول: إنّ البلاد شهدت نزوحاً عقارياً خليجياً مع بدء الأزمة السورية، وهذا أمر طبيعي وبديهي بحسب ما عبّر، وتمنّى أن يُترجم الانفتاح السياسي الخليجي بانفتاح استثماري، ووجّه دعوة إلى المستثمرين الخليجيين للعودة إلى لبنان، معتبراً أنّ التوازن الحاضر ما بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة هو أمر يطمئن المستثمرين الخليجيين، ولذلك هذا الوقت هو الأنسب للاستثمار في لبنان.